السبت، 13 مايو 2017

رحلة شارع «محمد علي» من زمن الفن الجميل لأغاني المهرجانات

شارع محمد علي.. تصوير - حنان فوزي الميهي

كتبت -  حنان فوزي الميهي 


"شارع محمد على" كان عنوانًا لفيلم أُنتِج عام 1944 ومسرحية عُرِضت في الفترة (1991-1995)، فهذا الشارع تميز بفرادة لم يعهد مثلها أي شارع آخر، ففيه اجتمع مزيج عجيب عبر العصور، حيث اجتمع فيه قديمًا الفن والفلكلور والعلم والأدب والرقي، وحديثًا الموبيليات وشركات الشحن وبيع الآلات الموسيقية ومحال الأختام والمطابع، كما كان مادة خصبة للسينما والمسرح، فدومًا كان شارع محمد على حاضرًا في الأعمال السينمائية والمسرحية. 


لم يكن "هوسمان" الذي خطط لشارع ريفولي بباريس يعلم وهو يخطط لشارع محمد علي الممتد من ميدان العتبة إلى القلعة بطول 2 كيلومتر إبان إنشاء القاهرة الخديوية، على الطراز الخديوي، أن هذه المساحة الكبيرة لن تكفي عربات الشحن والموبيليات وزحامها بعد قرنين من إنشائه.

ولم تكن أعضاء الجاليات الأجنبية وكبار رجال الدولة ليعلموا أيضًا - وهم يتسابقون للسكن به- أن الفنانة سعاد حسني ستأتي يومًا في فيلم "خلي بالك من زوزو" وتقول: "ذنبنا إننا طلعنا لقينا نفسنا ساكنين في شارع محمد على".

فقد شهد هذا الشارع تغيرًا عبر الزمن عدة مرات، منذ إنشائه إبان عهد الخديوي إسماعيل ضمن القاهرة الخديوية، أما الآن فقد اختلف شكلًا ومضمونًا عما كان عليه من قبل، فعند دخولنا لبداية شارع محمد على نجد محال الأختام والميداليات وطابعات الكروت يمينًا ويسارًا. 

"يعد آرام بربريان الأرمني هو رائد فن الزنكوغراف في مصر، وهذه المهنة اشتهر بها شارع محمد على، إذ أنه كان سكنًا للكثير من الجاليات الأجنبية في مصر"، هكذا قصّ علينا الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بداية ظهور الطباعة اليدوية على الأختام والمعادن، وارتباطها بشارع محمد على، ففن الزنكوغراف، أي الطباعة بالحفر اليدوي، مثله مثل الكثير من الأشياء، لم يعد موجودًا.

ففي زمن التكنولوجيا تطورت كل الحرف وأصبح الحفر بالليزر، إلا أن "الحاج محمد" السبعيني ذا اللحية البيضاء هو الوحيد الآن الذي يحفر على الأختام بشكل يدوي، ويقول عنه أصحاب المحال: "لو غاب يوم مبنشتغلش يدوي".

ويستكمل الدكتور محمد رفعت الإمام حديثه عن تاريخ الشارع بقوله: "ارتبط اسم شارع محمد على بالعوالم والآلاتية، ولكنه لم يكن يومًا شارعًا مُبتذلًا، إذ أنه يمثل التراث المصري والفلكلور بكافة أشكاله، وعلى عكس شوارع ارتبطت أيضا أسماؤها بالعوالم، لم يكن هذا الشارع مرتعًا للبذاءة، بل كان قِبلة لكل الفنانين والمثقفين، فهو يمثل الفن الشرقي الأصيل، فبينما تميز شارع عماد الدين بالبيانو والجيتار والآلات الغربية، تميز شارع محمد على بالطبلة والعود والمزمار والفن الشرقي".

"كل دي كانت قهاوي للآلاتية زمان، لكن دلوقتي اتحولت لشركات شحن ومحال موبيليات عشان مبقتش تأكل عيش بعد الـ"دي جي" ما طلع، بهذا "يفسر"أبو سامح" - صاحب أحد المحال في الشارع- ما آل إليه الوضع في الشارع من تغير، فالفن لم يعد موجودًا هنا، فقد ذهب ليحل محله الكراسي وأخشاب الموبيليات.
  
ورغم عدم وجود الفنانين إلا أن الفن لازال موجودًا على استحياء، فهنا توجد محال الآلات الموسيقية، والتي يقصدها كل فنان وعازف وهاوٍ، ورغم تنوع الآلات بين الآلات الشرقية والآلات الغربية، إلا أنها تتفق جميعها في مكان وجوها في شارع محمد على.

وها هما "محمد وعبد الرحمن" هواة في السنة الثانية من كلية الآداب بجامعة القاهرة، جاءا بعد بحث طويل على الإنترنت وسؤال العديد من الفنانين لشارع محمد على، ليشتريا جيتارًا من محل "جوهرة الفن"، وهو محل آلات موسيقية لصاحبه "مصطفى فاروق" الماثل في هذا المكان منذ عشرات السنين، ليمد الفنانين والهواة بآلاتهم الموسيقية، سواء كانت آلات غربية أو شرقية.

"قهوة دار الكتب" لصاحبها الراحل "أحمد محمد العزيزي" هي أيضًا من معالم شارع محمد على، فهنا كان يجلس حافظ إبراهيم وأحمد محرم وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد،

 يجلس هؤلاء العمالقة وغيرهم بهذا المقهى عند خروجهم من دار الكتب المشيدة في شارع محمد على، ويتجمع معهم المثقفون وطلاب العلم، فكما كانت "قهوة حلاوتهم" تأوي

 الآلاتية ويدور فيها الكلام عن العوالم، كان كذلك مقهى دار الكتب يأوي المثقفين، وكان يدور فيه الحديث دومًا عن الشعر والأدب.

والآن أصبح العامل المشترك بين المقهيين، أنهما ملاذ لعمال الترميمات المقامة في دار الكتب، وكذلك عمال الشحن والموبيليات وساكني محمد على، ومثلما تغيرت طبيعة

الرواد؛ كذلك تغير طبيعة كلامهم ونقاشاتهم على المقاهي، ويبدو أن الموضوع المشترك بين الجميع هو غلاء الأسعار، بالإضافة إلى بعض الموضوعات الثابتة في حياة كل المصريين، وإلا كيف سيمر اليوم دونما خلافاتٍ على الآراء السياسية والكروية؟! .
   
"أكل من عندي فنانين كتير كانوا بييجوا يقعدوا في قهوة دار الكتب وقهوة حلاوتهم بتاعة الآلاتية، زي ريكو وعبد الباسط حمودة وشكوكو ونجوى فؤاد وفايز حلاوة وغيرهم كتير"، قائل هذه الكلمات هو الحاج "لطفي عبد الله" صاحب محل كبابجي "أبو نادية" المقابل لمقهى دار الكتب بشارع محمد على، وأضاف "لطفي": "كل حاجة هنا اتغيرت، الناس بقت وحشة، ومعادش شارع محمد على زي زمان، الموبيليات وعربيات الشحن ملت الشارع، ومعدناش بنسمع الفنانين يغنوا، ولا الآلاتية يعزفوا، وبقوا يشغلوا أغاني مهرجانات في شارع الفن الأصيل".

حالٌ تغير لحالٍ آخر، وشارع يحمل تراث أجيال تحول لشارعٍ يجري فيه الكل ليلحق "أكل عيشه"، تشريفة حسب الله استُبدِلت بأغاني المهرجانات، والعوالم آثرن شارع الهرم تاركين المجال للموبيليات، وعربات الشحن ترتع في المكان، والبيوت الأثرية هُدِمت إلا قليل ليحل مكانها العمران المشوه.

الاثنين، 13 فبراير 2017

بعد 600 محاولة اغتيال.. "كاسترو" يموت "موتة ربنا"

كتبت: حنان فوزي الميهي

"وصلت لاستنتاج ربما يكون متأخرًا قليلاً، وهو أن الخطب يجب أن تكون قصيرة" من المفارقات الطريفة أن تلك العبارة قالها "فيدل كاسترو" ذلك الرجل الذي قد يراه البعض ما هو إلا قائدًا مفوهًا، عاش حياته السياسية لأكثر من نصف قرن على الخطب والشعارات، وهذا ما دعاه لأن يقول لنا عصارة تجربته في الحياة.

قد يراه البعض مجرد مختل ترك عائلته الأرستقراطية ليدافع عن حقوق الفقراء في كل مكان، أو مناضل عاش بقضيته وآمن بها حد القداسة. أو حاكم بلد لنصف قرن، أو  شخصٍ غامض. ولكن من هو كاسترو؟
فيدل كاسترو

إنه الثوري الذي قاتل للوصول إلى سدة الحكم منذ أكثر من نصف قرن، وتنازل عنه بزهدٍ منقطع النظير، ليعلن للعالم كله أنه اكتفى ولم يعد يريد الحكم بعد الآن، إنه الخطيب الذي أشبع شعبه خطبًا عن الشيوعية ليل نهار ولم تثمر خطبه إلا عن تقدمٍ ملحوظ في علاج الجميع، وعن حكمةٍ واكتشاف لم يأتي إلا متأخرًا ولكنه أتى، ألا وهو "أن الخطب يجب أن تكون قصيرة".   

وعلى الرغم من كثرة خُطبه وطولها، إلا أنه كان غامضًا على المستوى الشخصي، فلم يتم الكشف عن حياته الشخصية إلا فيما ندر، فقد وُلِد في "كوبا" عام "1926" لعائلةٍ غنية، تركها ليناضل مثيلاتها، ويعلن أن الكل سواء، وتزوج أكثر من امرأة في حياته ففي عام 1948 تزوج من ميرتا دياز وأنجبت له ابنه الأول فيديلتيو ويبدوا أن حب التغيير والتنقل والثورة على الواقع لم يكن فقط على المستوى السياسي بل تعداه ليصل إلى حياته الشخصية، فقد انفصل عن زوجته لينتقل إلى ناتي ريفلتا عام 1952  ويُنجب منها ابنته ألينا عام 1956، ولم يفت عام حتى إلا وكان قد التقى سيلينا سانشيز اتى والتي لم يتركها إلى أن تركتها هي صاعدةً للسماء عام 1980، وفي الثمانينيات تزوج من المرأة التي أنجب منها 5 أبناء وهي دالياسوتوديل.

كاسترو الثائر
وعلى ثراء حياته بالأحداث الشخصية، فلم تكن هذه هي الأحداث الأبرز في حياته، إذ أنه وكأي ثوري يحمل فكرة التغيير سُجِن في حياته مراتٍ عديدة، كانت المرة الأولى له عندما حمل السلاح ضد الرئيس الكوبي فالجنسيو باتستا عام 1954 وتم إطلاق صراحه بعد عامين ليواصل نضاله من المكسيك بتكوينه قوة مقاتلة عُرِفت بـ "26 يوليو"  ليحقق تأييدًا كوبيًا كبيرًا لتتمكن قواته من السيطرة على حكم باتستا وتفرض الحكم الشيوعي على البلاد، لتصبح كوبا هي البلد الشيوعية الأولى في الغرب، ولم يكتفي كاسترو بهذا الإنجاز بل عمل على تصدير الثورة إلى البلاد المحيطة، فقد كان له حلم عازم كل العزم على أن ينشره في أنحاء العالم كافة، ومنذ أن أصبح حاكمًا لكوبا عام 1959فلم يتوانى في أن يساعد كل الشعوب لتتحرر من طغيان الرأسمالية وتدخل قلعته الشيوعية وتعم المساواة في العالم أجمع.

وعندما نتجول في حياة كاسترو لنرى مدى إسهامه في تطور كوبا لا نجد الكثير، فلم يجعل بلاده في تقدم أمريكا ولم تسمح له أمريكا أن يفعل، إذ كان كاسترو هو الشخص الأول على قائمة الاغتيالات في "سي آي إيه" فقد قامت بـ600 محاولة  اغتيال فاشلة له ولكنه وعلى الرغم من ذلك ظل واقفًا يخطب في شعبه على مدار 9 رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكتف بأن يكون ذلك المشاغب الذي ينشر فكره فحسب، بل راح يسجل أحداثًا سيتذكرها التاريخ ما بقي الزمن، فقد كان على مقربة من أن يجر العالم إلى حرب نووية عالمية عام 1962، وذلك بعدما نشر الاتحاد السوفيتي رؤوس صواريخ نووية في كوبا فشعرت أمريكا بالخطر المميت وكادت الحرب أن تشتعل، لولا أن توصل الكيانان إلى اتفاق مفاده أن تكون كوبا في مأمن من أي غزو أمريكي وأن يتخلص الاتحاد السوفيتي من رؤوس الصواريخ النووية، وهذا الموقف الذي جعل من كاسترو اسمًا عالميًا لم يكن الوحيد، إذ تكرر العديد من المرات، فكان اسم كاسترو حاضرًا وبقوة في الحرب الباردة، وفي العديد من المواقف التي كان الصراع بين الرأسمالية والشيوعية فيها هو سيد الموقف.

وعن علاقاته الطيبة بالرفاق الثوريين حول العالم، كان لجيفارا نصيبًا خاصًا من الصداقة والكفاح المشترك، وكذلك كانت تجمعه بين معمر القذافي العديد من الصلات الفكرية والصداقة المشتركة حيث زار طرابلس عام 1977، كما ندد كاسترو بقتل القذافي، ولم يكن القذافي هو الصديق العربي الوحيد لكاسترو من الحكام، إذ كان لعبد الناصر أيضا نصيبا من الصداقة والود الثوري، ولم تكتفي الجزائر بأسفها لموت كاسترو بل قام صديقه بوتفليقة بإعلان الحداد لمدة 8 أيام على روح كاسترو.

 وفي حين مات الثوريون في ساحات المعارك وميادين الاعتراض وبغدر الرصاص المترصد لهم، مات كاسترو عن عمر يناهز 90 سنة في نوفمبر 2016 بعدما صارع المرض لعشر سنين كاملة على سريره بأمان، تاركًا الحكم لأخيه راؤوول كاسترو منذ 2008.