شارع محمد علي.. تصوير - حنان فوزي الميهي |
كتبت - حنان فوزي الميهي
"شارع محمد على" كان عنوانًا لفيلم أُنتِج عام 1944 ومسرحية عُرِضت في الفترة (1991-1995)، فهذا الشارع تميز بفرادة لم يعهد مثلها أي شارع آخر، ففيه اجتمع مزيج عجيب عبر العصور، حيث اجتمع فيه قديمًا الفن والفلكلور والعلم والأدب والرقي، وحديثًا الموبيليات وشركات الشحن وبيع الآلات الموسيقية ومحال الأختام والمطابع، كما كان مادة خصبة للسينما والمسرح، فدومًا كان شارع محمد على حاضرًا في الأعمال السينمائية والمسرحية.
لم يكن "هوسمان" الذي خطط لشارع ريفولي بباريس يعلم وهو يخطط لشارع محمد علي الممتد من ميدان العتبة إلى القلعة بطول 2 كيلومتر إبان إنشاء القاهرة الخديوية، على الطراز الخديوي، أن هذه المساحة الكبيرة لن تكفي عربات الشحن والموبيليات وزحامها بعد قرنين من إنشائه.
ولم تكن أعضاء الجاليات الأجنبية وكبار رجال الدولة ليعلموا أيضًا - وهم يتسابقون للسكن به- أن الفنانة سعاد حسني ستأتي يومًا في فيلم "خلي بالك من زوزو" وتقول: "ذنبنا إننا طلعنا لقينا نفسنا ساكنين في شارع محمد على".
فقد شهد هذا الشارع تغيرًا عبر الزمن عدة مرات، منذ إنشائه إبان عهد الخديوي إسماعيل ضمن القاهرة الخديوية، أما الآن فقد اختلف شكلًا ومضمونًا عما كان عليه من قبل، فعند دخولنا لبداية شارع محمد على نجد محال الأختام والميداليات وطابعات الكروت يمينًا ويسارًا.
"يعد آرام بربريان الأرمني هو رائد فن الزنكوغراف في مصر، وهذه المهنة اشتهر بها شارع محمد على، إذ أنه كان سكنًا للكثير من الجاليات الأجنبية في مصر"، هكذا قصّ علينا الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بداية ظهور الطباعة اليدوية على الأختام والمعادن، وارتباطها بشارع محمد على، ففن الزنكوغراف، أي الطباعة بالحفر اليدوي، مثله مثل الكثير من الأشياء، لم يعد موجودًا.
ففي زمن التكنولوجيا تطورت كل الحرف وأصبح الحفر بالليزر، إلا أن "الحاج محمد" السبعيني ذا اللحية البيضاء هو الوحيد الآن الذي يحفر على الأختام بشكل يدوي، ويقول عنه أصحاب المحال: "لو غاب يوم مبنشتغلش يدوي".
ويستكمل الدكتور محمد رفعت الإمام حديثه عن تاريخ الشارع بقوله: "ارتبط اسم شارع محمد على بالعوالم والآلاتية، ولكنه لم يكن يومًا شارعًا مُبتذلًا، إذ أنه يمثل التراث المصري والفلكلور بكافة أشكاله، وعلى عكس شوارع ارتبطت أيضا أسماؤها بالعوالم، لم يكن هذا الشارع مرتعًا للبذاءة، بل كان قِبلة لكل الفنانين والمثقفين، فهو يمثل الفن الشرقي الأصيل، فبينما تميز شارع عماد الدين بالبيانو والجيتار والآلات الغربية، تميز شارع محمد على بالطبلة والعود والمزمار والفن الشرقي".
"كل دي كانت قهاوي للآلاتية زمان، لكن دلوقتي اتحولت لشركات شحن ومحال موبيليات عشان مبقتش تأكل عيش بعد الـ"دي جي" ما طلع، بهذا "يفسر"أبو سامح" - صاحب أحد المحال في الشارع- ما آل إليه الوضع في الشارع من تغير، فالفن لم يعد موجودًا هنا، فقد ذهب ليحل محله الكراسي وأخشاب الموبيليات.
ورغم عدم وجود الفنانين إلا أن الفن لازال موجودًا على استحياء، فهنا توجد محال الآلات الموسيقية، والتي يقصدها كل فنان وعازف وهاوٍ، ورغم تنوع الآلات بين الآلات الشرقية والآلات الغربية، إلا أنها تتفق جميعها في مكان وجوها في شارع محمد على.
وها هما "محمد وعبد الرحمن" هواة في السنة الثانية من كلية الآداب بجامعة القاهرة، جاءا بعد بحث طويل على الإنترنت وسؤال العديد من الفنانين لشارع محمد على، ليشتريا جيتارًا من محل "جوهرة الفن"، وهو محل آلات موسيقية لصاحبه "مصطفى فاروق" الماثل في هذا المكان منذ عشرات السنين، ليمد الفنانين والهواة بآلاتهم الموسيقية، سواء كانت آلات غربية أو شرقية.
"قهوة دار الكتب" لصاحبها الراحل "أحمد محمد العزيزي" هي أيضًا من معالم شارع محمد على، فهنا كان يجلس حافظ إبراهيم وأحمد محرم وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد،
يجلس هؤلاء العمالقة وغيرهم بهذا المقهى عند خروجهم من دار الكتب المشيدة في شارع محمد على، ويتجمع معهم المثقفون وطلاب العلم، فكما كانت "قهوة حلاوتهم" تأوي
الآلاتية ويدور فيها الكلام عن العوالم، كان كذلك مقهى دار الكتب يأوي المثقفين، وكان يدور فيه الحديث دومًا عن الشعر والأدب.
والآن أصبح العامل المشترك بين المقهيين، أنهما ملاذ لعمال الترميمات المقامة في دار الكتب، وكذلك عمال الشحن والموبيليات وساكني محمد على، ومثلما تغيرت طبيعة
الرواد؛ كذلك تغير طبيعة كلامهم ونقاشاتهم على المقاهي، ويبدو أن الموضوع المشترك بين الجميع هو غلاء الأسعار، بالإضافة إلى بعض الموضوعات الثابتة في حياة كل المصريين، وإلا كيف سيمر اليوم دونما خلافاتٍ على الآراء السياسية والكروية؟! .
"أكل من عندي فنانين كتير كانوا بييجوا يقعدوا في قهوة دار الكتب وقهوة حلاوتهم بتاعة الآلاتية، زي ريكو وعبد الباسط حمودة وشكوكو ونجوى فؤاد وفايز حلاوة وغيرهم كتير"، قائل هذه الكلمات هو الحاج "لطفي عبد الله" صاحب محل كبابجي "أبو نادية" المقابل لمقهى دار الكتب بشارع محمد على، وأضاف "لطفي": "كل حاجة هنا اتغيرت، الناس بقت وحشة، ومعادش شارع محمد على زي زمان، الموبيليات وعربيات الشحن ملت الشارع، ومعدناش بنسمع الفنانين يغنوا، ولا الآلاتية يعزفوا، وبقوا يشغلوا أغاني مهرجانات في شارع الفن الأصيل".
حالٌ تغير لحالٍ آخر، وشارع يحمل تراث أجيال تحول لشارعٍ يجري فيه الكل ليلحق "أكل عيشه"، تشريفة حسب الله استُبدِلت بأغاني المهرجانات، والعوالم آثرن شارع الهرم تاركين المجال للموبيليات، وعربات الشحن ترتع في المكان، والبيوت الأثرية هُدِمت إلا قليل ليحل مكانها العمران المشوه.