السبت، 17 فبراير 2018

حكايات من سوق السمك «تقرير مصور»

كتبت: حنان فوزي الميهي

هناك أماكن تهتدي إليها بسؤال المارة في الطرق، أو بعنوان على ظهر ورقة، وهناك أماكن تقودك إليها الروائح، فعند سؤالي لسائق التاكسي عن هذا المكان قال لي "هتعرفيه لوحدك من الريحة يا أبلة" فتلك الرائحة المميزة تقودك إلى حيث يوجد ساكني المياه الذين جاءوا هنا قصرًا دونما إرادة منهم عبر رحلةٍ لم يختاروها، إنه سوق السمك الحضاري بالمنيب.


السمك هو العامل المشترك الوحيد في هذا المكان، فتعددت الحكايا والسمك واحدٌ، فهنا ستجد مزيجًا من حكايات لن تتجمع إلا في هذا المكان، بدءً من حكايا القطط التي تتجول بأمان وأدب جم في السوق، مكتفيةً ببقايا السمك التي يمِنُ بها الباعة عليها وما أكثر هذه المنن، فتأكل هذه القطط حتى تشبع، ولربما تأكل سمكًا بمعدل يفوق معدل أكل الكثير من البشر لهذا الصنف الذي أصبح لمن استطاع إليه سبيلًا بعد هذا الغلاء الموحش.

وتشبع القطط مُكتفيةً بهذا القدر لتنام في سلام لا يجده الكثير من البشر، ولما لا وقد باتت ضامنة أن الفطار والغداء والعشاء، سيكون وجباتٍ متنوعة من أسماكٍ متعددة الأصناف والأشكال، بين سمكٍ نيلي وسمكٍ بحري.




وعندما تترك القطط وتركز أكثر على البشر، فسيستوقفك في الوهلة الأولى محل أسماك الهواري لصاحبة الحاج عبد الرحمن الذي يحب أن يطلق على نفسه لقب "رئيس سوق السمك بالمنيب" ولما لا وهو من مؤسسي السوق، إذ إنه هنا في نفس المكان منذ أكثر من عشرين عامًا، ومن قبلها يحكي أنه كان في سوق السمك القديم بشارع سعد في الجيزة، وذلك منذ ستينيات القرن الماضي، فمثلما يوجد شيخ الصيادين فالحاج عبد الرحمن يعد شيخ البائعين في هذا السوق.

"يوم الجمعة دا كنا بنعدي بجنبنا في السوق من كتر الزحمة" هكذا بدء كرم كلامه عن أمجاد سوق السمك قديمًا، متحسرًا على الحال الذي آلت إليه الأوضاع الآن، وكرم بائع سمك مُحنك يعرف عن السمك ما لا يعرفه الآخرون، وفي أثناء روايته عن كيف يأتي هذا السمك إلى هنا يقول: "هذا السمك من أماكن متعددة مثل السويس وكفر الشيخ والإسكندرية، يأتي طازجًا يوميًا إلى سوق العبور ليُباع بالجملة، عبر مزاد علني، وقديمًا كنا نشتري كل يومين نصف طن من كل نوع، ومن التجار من كان يشتري بالطن، ولكن الآن نحن نشتري صندوق من كل نوع بما يعادل 25 كيلو، فحركة البيع شبه متوقفة.


"كل يوم الساعة 6 بييجي الصيادين هنا ونشتري منهم سمك النيل" قائلة هذه الجملة هى حنان عاشور أم لبنتين يساعدونها في تجارة السمك، فشهد وملك هنا دومًا لمساعدتها، بينما الأب يعمل في مجالٍ آخر غير السمك، وحنان تتاجر في سمك النيل، فهى لا تستطيع أن تنافس التجار الكبار ممن يتاجرون في أسماك البحر، فهى تقف هنا يوميًا لتحصد قوتها وقوت بناتها، وبكل الأسى تقول "الزباين بقت تيجي تسأل على سعر السمك وتمشي وقليل بس اللي بيشتري" ولما لا وسعر الأسماك قفز قفزة لم يكن ليتخيلها أحد، فمن 12 جنيهًا لكيلو البلطي إلى 35 جنيهًا للكيلو، هذه الزيادة كما أزعجت المشترين، فهى حتمًا تزعج تجار سوق المنيب التي توقفت لديهم حركة البيع والشراء منذ بداية هذه الزيادة المهولة في أسعار السمك.





وهنا على الأرض تفترش هذه السيدة التي يأست من مناداتها على سمكها الذي لم يُباع، فقالت لي"صوريني بس مش قادرة أتكلم، أنا طول النهار بهاتي مع الزباين بيسألوا عالسعر ومبيشتروش"





ووسط هذا التجمع الضئيل في سوق السمك يأتيك صمت مبالغ فيه من الجهة الأخرى، لتلتفت وترى هذا الهدوء الذي يكتنف هذا الجزء من السوق، لكن عندما تذهب إليه تجده هو أيضًا جزء لا يتجزء من سوق السمك، إذ إنه الجانب الخاص بالسمك المجمد، فهنا يتخصص هذا المكان لبيع الأسماك المجمدة، ويقول الحاج محمد أبو الغيط صاحب محل أسماك مُجمدة إن هناك بعض الأنواع من السمك لا توجد طوال العام، مثل الجمبري الذي يبدأ موسمه في سبتمبر وينتهي في أبريل، وفي غير هذه الفترة ينشط السحب على الجمبري المجمد، ولكن هذا كان في الأيام العادية قبل أن يزداد سعر الجمبري ليصل إلى 300 جنيه للجمبري الطازج، و165 جنيهًا للمجمد بعدما كان المثلج 85 جنيهًا مُحققًا زيادة تصل إلى 100%، وبهذا الكلام يُبرر الحاج أبو الغيط هذا الهدوء الذي يملئ المكان.



بعيدًا عن بائعي السمك، هناك مهن أخرى في سوق السمك، فيبدوا أن خالد عنتر هو الوحيد الذي لم يرتفع أجره ولا زالت مهنته محتفظة بسعرها، إذ يقول "أنا بنضف كيلو السمك بجنيه"، جنيهًا واحدًا ثمنًا لتنضيف كيلو سمك وتقشيره وجعله مُهيئًا للطبخ مباشرةً، وبهذا يكون خالد هو الأقل جشعًا في سوق السمك، إلا أنه الأعلى شعبية بين القطط، فتجده صديقًا للقطط، يُطعمهم من أحشاء وقشور الأسماك التي ينظفها، وخالد لا يُطعم القطط لكي يتخلص من تلك الأحشاء، بل لأن بقلبه رحمة ويعلم جيدًا كيف تجوع الأرواح، وإلا فإن هذه الأحشاء وتلك القشور مهمة جدًا بالنسبة له، إذ يبيعها لتجار الأعلاف وكما قال "أهي نواية بتسند الزير" ومن يدري فلعل الزير هو الآخر مثقوب!


وكما قال كرم السوق مفيهوش غير عشرة مشتريين، ومن ضمن هؤلاء المشتريين "وليد صابر" الذي يحكي مشكلته مع غلاء الأسعار ليقول: "أنا دلوقتي بشتري بالواحدة، يعني أختار على قد عدد أفراد الأسرة بالظبط وأوزنهم" فهنيئًا لك يا وليد أنك تستطيع أن تشتري سمكة لكل  فرد، فهناك من لا يستطيع أن يفعل ذلك بعد هذه الزيادة المهولة في الأسعار، ويستكمل وليد كلامه ليقول إنه يشتري أيضًا الفاكهة بالثمرة، فرفاهية أن يشتري الأشياء لتفيض عن احتياجات أسرته انتهت وحل محلها الدعاء الأكثر ترديدًا "يا رب عدي الشهر على خير".


لو تطرق نظرنا لكل التجار والباعة لوجدنا شيئًا منطقيًا نغفل عن ملاحظته، ألا وهو أن السمك مع كل بائع يبدوا متجانسًا، ولكن مع رؤية سمك أم عمرو تلاحظ وبشدة كم الاختلاف في سمكها، فكل سمكة تقريبًا تختلف عن الأخرى، وعندما تقترب أكثر منها تجد أن كل الأشياء هنا مختلفة، وليس فقط السمك، فالكل يقول عنها إنها الأم الحنون للسوق، والأم المثالية والمكافحة المثابرة، فزوجها توفى منذ أكثر من عشرين عامًا تاركًا لها ثروة تتكون من خمسة أبناء والستر، فعملت في سوق السمك منذ ذلك الحين لكي تُربي أولادها، وتزوج منهم حتى الآن أربعة أبناء، وبفخر الدنيا كله تقول أم عمرو أنها علمت أولادها ليصبحوا متعلمين فمنهم ابنة خريجة نظم ومعلومات وأخرى معهد تمريض، أما أولادها فقد اكتفوا بالتعليم الصناعي، ولكن مع هذا الفخر التي تحدثت به، يتحول صوتها إلى الأسى وهى تقول إنهم عاطلين عن العمل، وإنها حاولت مرارًا أن تسعى على معاش لها من التضامن الاجتماعي ولكن ورقها لم يكن كاملًا، وهى كما تصف نفسها غير قادرة على تحمل الطوابير يوميًا بدون طائل، وعن شكل السمك المختلف الأحجام والأشكال قالت أم عمرو إنها تأخذ من كل تاجر وصياد سمكة، لكي يتجمع لديها هذا المزيج اليومي من السمك التي تقتات على ثمنه هى وأبناءها.


"هات سمكة والنبي" هذا هو طلب المتسولين في سوق السمك، فماذا سيطلب المتسول من تاجر سمك غير أن يمن عليه بسمكة! ومع كثرة المتسولين فأم عمر هى الأكثر شهرة، فهى هنا منذ عشرين عامًا، والمميز في أم عمر أن الكل يعرف حكايتها في السوق، فعمر ابنها الوحيد في السجن منذ عشرين عامًا يقضي عقوبة قتل في مشاجرة لم يكن طرفًا فيها، فتقول أم عمر عن ابنها "كان شغال في شركة ملابس وناس بتتعارك دخل يسلك وناس اتقتلت وخدوه" ومن هذا الوقت إلى يومنا هذا تذهب أم عمر لابنها في طرة بزيارات أسبوعية تُنفق عليها كل ما تجنيه من رزق سوق السمك وغيره.

هذه الحكايات هى جزء بسيط من قصص كثيرة في سوق السمك، فقد حكينا عن قصص القطط والباعة والمشتريين والتجار والمتسولين وعاملي التنضيف وغفلنا أهم قصة ألا وهى قصة السمك، ولكن مهلًا فالكل هنا يأتي قاصدًا السمك، ولكننا أتينا هذه المرة قاصدين قصص من سوق السمك. فهذه الحكايات وغيرها آلاف الحكايات قد تكون في كل مكان نذهب إليه عابرين دون أن ننظر في وجوه البشر، فوراء كل وجه حكاية.

نشر هذا الموضوع على الرابط التالي: http://www.vetogate.com/2660646 
























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق